فصل: فَصْلٌ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِلْبَيْعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.[بُيُوعُ الثُّنْيَا]:

وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، (أَعْنِي: هَلْ تَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ عَنِ الثُّنْيَا، أَوْ لَيْسَتْ تَدْخُلُ؟
). فَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ حَامِلًا وَيَسْتَثْنِيَ مَا فِي بَطْنِهَا، فَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الْمُسْتَثْنَى مَبِيعٌ مَعَ مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ، أَمْ لَيْسَ بِمَبِيعٍ وَإِنَّمَا هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ؟
فَمَنْ قَالَ: مَبِيعٌ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مِنَ الثُّنْيَا الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِمَا فِيهَا مِنَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهِ، وَقِلَّةِ الثِّقَةِ بِسَلَامَةِ خُرُوجِهِ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ أَجَازَ ذَلِكَ. وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيمَنْ بَاعَ حَيَوَانًا، وَاسْتَثْنَى بَعْضَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ شَائِعًا، أَوْ مُعَيَّنًا، أَوْ مُقَدَّرًا، فَإِنْ كَانَ شَائِعًا فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ عَبْدًا إِلَّا رُبْعَهُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُغَيَّبًا مِثْلَ الْجَنِينِ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ مُغَيَّبٍ، فَإِنْ كَانَ مُغَيَّبًا فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُغَيَّبٍ كَالرَّأْسِ، وَالْيَدِ، وَالرِّجْلِ، فَلَا يَخْلُو الْحَيَوَانُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُسْتَبَاحُ ذَبْحُهُ، أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ ذَبْحُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدٌ غُلَامًا وَيَسْتَثْنِيَ رِجْلَهُ، لِأَنَّ حَقَّهُ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ، وَلَا مُتَبَعِّضٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ مِمَّا يُسْتَبَاحُ ذَبْحُهُ، فَإِنْ بَاعَهُ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ عُضْوًا لَهُ قِيمَةٌ بِشَرْطِ الذَّبْحِ، فَفِي الْمَذْهَبِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالثَّانِي يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ: جَوَّزَ بَيْعَ الشَّاةِ مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْقَوَائِمِ وَالرَّأْسِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَثْنَى قِيمَةٌ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ إِنَّهُ كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ بِجِلْدِهِ فَمَا تَحْتَ الْجِلْدِ مُغَيَّبٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَثْنِهِ بِجِلْدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي بِأَيِّ صِفَةٍ يَخْرُجُ لَهُ بَعْدَ كَشْطِ الْجِلْدِ عَنْهُ. وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ اسْتَثْنَى عُضْوًا مُعَيَّنًا مَعْلُومًا، فَلَمْ يَضُرَّهُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْجِلْدِ أَصْلُهُ شِرَاءُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ، وَالْجَوْزِ فِي قِشْرِهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْحَيَوَانِ بِشَرْطِ الذَّبْحِ إِمَّا عُرْفًا وَإِمَّا مَلْفُوظًا بِهِ جُزْءًا مُقَدَّرًا مِثْلَ أَرْطَالٍ مِنْ جَزُورٍ، فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا الْمَنْعُ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ، وَالثَّانِيَةُ الْإِجَازَةُ فِي الْأَرْطَالِ الْيَسِيرَةِ فَقَطْ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَأَجْمَعُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الرَّجُلِ ثَمَرَ حَائِطِهِ، وَاسْتِثْنَاءِ نَخَلَاتٍ مُعَيَّنَاتٍ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى جَوَازِ شِرَائِهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ حَائِطٍ لَهُ عِدَّةَ نَخَلَاتٍ غَيْرَ مُعَيَّنَاتٍ إِلَّا بِتَعْيِينِ الْمُشْتَرِي لَهَا بَعْدَ الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُتَبَايِعَانِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَبِيعُ الْحَائِطَ وَيَسْتَثْنِي مِنْهُ عِدَّةَ نَخَلَاتٍ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ لِمَكَانِ اخْتِلَافِ صِفَةِ النَّخِيلِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إِجَازَتُهُ، وَمَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ قَوْلَهُ فِي النَّخَلَاتِ، وَأَجَازَهُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْغَنَمِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ فِي شِرَاءِ نَخَلَاتٍ مَعْدُودَةٍ مِنْ حَائِطِهِ عَلَى أَنْ يُعَيِّنَهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ الْمُشْتَرِي فَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا إِذَا اسْتَثْنَى الْبَائِعُ مَكِيلَهُ مِنْ حَائِطٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَمَنَعَ ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ تَدُورُ الْفَتْوَى عَلَيْهِمْ، وَأَلَّفْتُ الْكِتَابَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثُّنْيَا فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ مَكِيلٍ مِنْ جُزَافٍ، وَأَمَّا مَالِكٌ، وَسَلَفُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا ذَلِكَ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ وَمَنَعُوهُ فِيمَا فَوْقَهُ، وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى الثُّنْيَا عَلَى مَا فَوْقَ الثُّلُثِ، وَشَبَّهُوا بَيْعَ مَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى بِبَيْعِ الصُّبْرَةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مَبْلَغُ كَيْلِهَا فَتُبَاعُ جُزَافًا، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا كَيْلٌ مَا، وَهَذَا الْأَصْلُ أَيْضًا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، (أَعْنِي: إِذَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا كَيْلٌ مَعْلُومٌ).
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَلَمْ يُجِزْهُ الْكُوفِيُّونَ وَلَا الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ الثَّمَنَ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ مَجْهُولًا، وَمَالِكٌ يَقُولُ: إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ مَعْلُومَةً لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مَجْهُولًا، وَرُبَّمَا رَآهُ الَّذِينَ مَنَعُوهُ مِنْ بَابِ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّلَفُ أَوِ الْبَيْعُ كَمَا قُلْنَا. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي إِجَازَةِ السَّلَفِ وَالشَّرِكَةِ، فَمَرَّةً أَجَازَ ذَلِكَ، وَمَرَّةً مَنَعَهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا لِاخْتِلَافِهَا بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ فِي وُجُودِ عِلَلِ الْمَنْعِ فِيهَا الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَمَنْ قَوِيَتْ عِنْدَهُ عِلَّةُ الْمَنْعِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْهَا مَنْعَهَا، وَمَنْ لَمْ تَقْوَ عِنْدَهُ أَجَازَهَا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى ذَوْقِ الْمُجْتَهِدِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَادَّ يُتَجَاذَبُ الْقَوْلُ فِيهَا إِلَى الضِّدَّيْنِ عَلَى السَّوَاءِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيهَا، وَلَعَلَّ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَادِّ يَكُونُ الْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ صَوَابًا، وَلِهَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَى التَّخْيِيرِ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ أَوِالْغَبْنِ:

وَالْمَسْمُوعُ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَثْبُتُ مِنْ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَعَنْ أَنْ يَسُومَ أَحَدٌ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَنَهْيِهِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَنَهْيِهِ عَنْ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَنَهْيِهِ عَنِ النَّجْشِ.

.فَصْلٌ بَيْعُ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ:

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْصِيلِ مَعَانِي هَذِهِ الْآثَارِ اخْتِلَافًا لَيْسَ بِمُتَبَاعِدٍ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ»، وَمَعْنَى نَهْيِهِ عَنْ أَنْ يَسُومَ أَحَدٌ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَاحِدٌ، وَهِيَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي إِذَا رَكَنَ الْبَائِعُ فِيهَا إِلَى السَّائِمِ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا شَيْءٌ يَسِيرٌ مِثْلُ اخْتِيَارِ الذَّهَبِ، أَوِ اشْتِرَاطِ الْعُيُوبِ، أَوِ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا، وَبِمِثْلِ تَفْسِيرِ مَالِكٍ فَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مَعْنَى «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ»، أَنْ لَا يَطْرَأَ رَجُلٌ آخَرُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ فَيَقُولَ عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ السِّلْعَةِ وَلَمْ يَحُدَّ وَقْتَ رُكُونٍ وَلَا غَيْرَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا تَمَّ الْبَيْعُ بِاللِّسَانِ، وَلَمْ يَفْتَرِقَا، فَأَتَى أَحَدٌ يَعْرِضُ عَلَيْهِ سِلْعَةً لَهُ هِيَ خَيْرٌ مِنْهَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الْبَيْعَ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِالِافْتِرَاقِ فَهُوَ وَمَالِكٌ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ قُرْبِ لُزُومِ الْبَيْعِ، وَمُخْتَلِفَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَا هِيَ لِاخْتِلَافِهِمَا فِيمَا بِهِ يَكُونُ اللُّزُومُ فِي الْبَيْعِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ. وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ يُكْرَهُ، وَإِنْ وَقَعَ مَضَى لِأَنَّهُ سَوْمٌ عَلَى بَيْعٍ لَمْ يَتِمَّ، وَقَالَ دَاوُدُ، وَأَصْحَابُهُ: إِنْ وَقَعَ فَسْخٌ فِي أَيِّ حَالَةٍ وَقَعَ تَمَسُّكًا بِالْعُمُومِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَسْخُهُ مَا لَمْ يَفُتْ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي النَّهْيِ عَنْ سَوْمِ أَحَدٍ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا بَأْسَ بِالسَّوْمِ عَلَى سَوْمِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَخِي الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسُمْ أَحَدٌ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ»، وَمِنْ هَاهُنَا مَنَعَ قَوْمٌ بَيْعَ الْمُزَايَدَةِ، وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ هَلْ يُحْمَلُ هَذَا النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ أَوْ عَلَى الْحَظْرِ، ثُمَّ إِذَا حُمِلَ عَلَى الْحَظْرِ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، أَوْ فِي حَالَةٍ دُونَ حَالَةٍ؟

.فَصْلٌ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِلْبَيْعِ:

وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِلْبَيْعِ حكمه، فَاخْتَلَفُوا فِي مَفْهُومِ النَّهْيِ مَا هُوَ؟
فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ لِئَلَّا يَنْفَرِدَ الْمُتَلَقِّي بِرُخْصِ السِّلْعَةِ، دُونَ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدٌ سِلْعَةً حَتَّى تَدْخُلَ السُّوقَ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّلَقِّي قَرِيبًا، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَحَدُّ الْقُرْبِ فِي الْمَذْهَبِ بِنَحْوٍ مِنْ سِتَّةِ أَمْيَالٍ، وَرَأَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ جَازَ، وَلَكِنْ يُشْرِكُ الْمُشْتَرِي أَهْلَ الْأَسْوَاقِ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُوقَهَا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْبَائِعِ لِئَلَّا يَغْبِنَهُ الْمُتَلَقِّي، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَجْهَلُ سِعْرَ الْبَلَدِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا وَقَعَ فَرَبُّ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَنْفَذَ الْبَيْعَ، أَوْ رَدَّهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ هُوَ نَصٌّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَتَلَقَّوُا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّى مِنْهُ شَيْئًا فَاشْتَرَاهُ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إِذَا أَتَى السُّوقَ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ.

.فَصْلٌ بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي:

وَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَبِعْ أَهْلُ الْحَضَرِ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي شِرَاءِ الْحَضَرِيِّ لِلْبَدَوِيِّ، فَمَرَّةً أَجَازَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَمَرَّةً مَنَعَهُ، وَأَهْلُ الْحَضَرِ عِنْدَهُ هُمُ الْأَمْصَارُ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ أَهْلُ الْقُرَى لِأَهْلِ الْعَمُودِ الْمُنْتَقِلِينَ، وَبِمِثْلِ قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ الْحَاضِرُ لِلْبَادِي وَيُخْبِرَهُ بِالسِّعْرِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ، (أَعْنِي: أَنْ يُخْبِرَ الْحَضَرِيُّ الْبَادِيَ بِالسِّعْرِ)، وَأَجَازَهُ الْأَوْزَاعِيُّ. وَالَّذِينَ مَنَعُوهُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ بِهَذَا النَّهْيِ هُوَ إِرْفَاقُ أَهْلِ الْحَضَرِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَيْسَرُ مِنْ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَرْخَصُ، بَلْ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ مَجَّانًا عِنْدَهُمْ (أَيْ: بِغَيْرِ ثَمَنٍ)، فَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَنْصَحَ الْحَضَرِيُّ لِلْبَدَوِيِّ، وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» وَبِهَذَا تَمَسَّكَ فِي جَوَازِهِ أَبُو حَنِيفَةَ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ جَابِرٍ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لَبَادٍ، ذَرُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ انْفَرَدَ بِهَا أَبُو دَاوُدَ فِيمَا أَحْسَبُ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ غَبْنِ الْبَدَوِيِّ لِأَنَّهُ يَرِدُ وَالسِّعْرُ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ، إِلَّا أَنْ تَثْبُتَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَيَكُونَ عَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا وَقَعَ فَقَدْ تَمَّ وَجَازَ الْبَيْعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»، وَاخْتَلَفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَصْحَابُ مَالِكٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُفْسَخُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُفْسَخُ.

.فَصْلٌ بَيْعُ النَّجْشِ:

وَأَمَّا نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ النَّجْشِ، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّجْشَ تعريفه هُوَ أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ فِي سِلْعَةٍ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ شِرَاؤُهَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْفَعَ الْبَائِعَ وَيَضُرَّ الْمُشْتَرِيَ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَ هَذَا الْبَيْعُ، فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ فَاسِدٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ كَالْعَيْبِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّ رَدَّ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَ أَمْسَكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ وَقَعَ أَثِمَ، وَجَازَ الْبَيْعُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ يَتَضَمَّنُ النَّهْيُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ؟
وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الشَّيْءِ بَلْ مِنْ خَارِجٍ، فَمَنْ قَالَ يَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْبَيْعِ لَمْ يُجِزْهُ، وَمَنْ قَالَ لَيْسَ يَتَضَمَّنُ أَجَازَهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إِذَا وَرَدَ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْفَسَادَ مِثْلَ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ، وَإِذَا وَرَدَ الْأَمْرُ مِنْ خَارِجٍ لَمْ يَتَضَمَّنِ الْفَسَادَ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي هَذَا الْبَابِ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: «إِنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ»، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ، وَقَالَ: لَا يُمْنَعُ وَهُوَ بِئْرٌ وَلَا نَقْعُ مَاءٍ». وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا النَّهْيِ، فَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى عُمُومِهِ، فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ بَيْعُ الْمَاءِ بِحَالٍ كَانَ مِنْ بِئْرٍ، أَوْ غَدِيرٍ، أَوْ عَيْنٍ فِي أَرْضٍ مُمَلَّكَةٍ، أَوْ غَيْرِ مُمَلَّكَةٍ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَمَلَّكًا كَانَ أَحَقَّ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَرْبَعٌ لَا أَرَى أَنْ يُمْنَعْنَ: الْمَاءُ، وَالنَّارُ، وَالْحَطَبُ، وَالْكَلَأُ. وَبَعْضُهُمْ خَصَّصَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لِمُعَارَضَةِ الْأُصُولِ لَهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَالَّذِينَ خَصَّصُوا هَذَا الْمَعْنَى اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ تَخْصِيصِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْبِئْرَ يَكُونُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ يَسْقِي هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، فَيَرْوِي زَرْعَ أَحَدِهِمَا فِي بَعْضِ يَوْمِهِ، وَلَا يَرْوِي فِي الْيَوْمِ الَّذِي لِشَرِيكِهِ زَرْعَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَمْنَعَ شَرِيكَهُ مِنَ الْمَاءِ بَقِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي الَّذِي يَزْرَعُ عَلَى مَائِهِ فَتَنْهَارُ بِئْرُهُ وَلِجَارِهِ فَضْلُ مَاءٍ أَنَّهُ لَيْسَ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ فَضْلَ مَائِهِ إِلَى أَنْ يُصْلِحَ بِئْرَهُ، وَالتَّأْوِيلَانِ قَرِيبَانِ، وَوَجْهُ التَّأْوِيلَيْنِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْمُطْلَقَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ مُطْلَقًا، ثُمَّ نَهَى عَنْ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ، فَحَمَلُوا الْمُطْلَقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَقَالُوا: الْفَضْلُ هُوَ الْمَمْنُوعُ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَأَصْلُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمَاءَ مَتَى كَانَ مُتَمَلَّكَةً مَنْبَعُهُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لَهُ بَيْعُهُ وَمَنْعُهُ، إِلَّا أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ لَا ثَمَنَ مَعَهُمْ وَيَخَافُ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكَ، وَحُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى آبَارِ الصَّحْرَاءِ الَّتِي تُتَّخَذُ فِي الْأَرَضِينَ غَيْرِ الْمُتَمَلَّكَةِ، فَرَأَى أَنَّ صَاحِبَهَا (أَعْنِي: الَّذِي حَفَرَهَا) أَوْلَى بِهَا، فَإِذَا رَوَتْ مَاشِيَتُهُ تَرَكَ الْفَضْلَ لِلنَّاسِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْبِئْرَ لَا تُتَمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ التَّفْرِقَةِ فِي الْمَبِيعِ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا، لِثُبُوتِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي وَقْتِ جَوَازِ التَّفْرِقَةِ، وَفِي حُكْمِ الْبَيْعِ إِذَا وَقَعَ. فَأَمَّا حُكْمُ الْبَيْعِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُفْسَخُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْسَخُ، وَأَثِمَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي. وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلِ النَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ إِذَا كَانَ لِعِلَّةٍ مِنْ خَارِجٍ؟
وَأَمَّا الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِلُ فِيهِ الْمَنْعُ إِلَى الْجَوَازِ، فَقَالَ مَالِكٌ: حَدُّ ذَلِكَ الْإِثْغَارُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَدُّ ذَلِكَ سَبْعُ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: حَدُّهُ فَوْقَ عَشْرِ سِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا نَفَعَ نَفْسَهُ وَاسْتَغْنَى فِي حَيَاتِهِ عَنْ أُمِّهِ. وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْبَابِ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَيْعِ غَبْنٌ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ هَلْ يَفْسَخُ الْبَيْعَ أَمْ لَا؟
فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَفْسَخَ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِذَا كَانَ فَوْقَ الثُّلُثِ رُدَّ، وَحَكَاهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَجَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ الْجَلَبِ إِذَا تَلَقَّى خَارِجَ الْمِصْرِ دَلِيلًا عَلَى اعْتِبَارِ الْغَبْنِ، وَكَذَلِكَ مَا جَعَلَ لِمُنْقِذِ بْنِ حِبَّانَ مِنَ الْخِيَارِ ثَلَاثًا لِمَا ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ يَغِبْنُ فِي الْبُيُوعِ، وَرَأَى قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ الْأَوَّلِ أَنَّ حُكْمَ الْوَالِدِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْوَالِدَةِ، وَقَوْمٌ رَأَوْا ذَلِكَ فِي الْأُخُوَّةِ.

.الْبَابُ السَّادِسِ فِي النَّهْيِ مِنْ قِبَلِ وَقْتِ الْعِبَادَاتِ:

وَذَلِكَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَحْسَبُ، (أَعْنِي مَنْعَ الْبَيْعِ عِنْدَ الْأَذَانِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ). وَاختَلَفُوا فِي حُكْمِهِ إِذَا وَقَعَ هَلْ يُفْسَخُ أَوْ لَا يُفْسَخُ البيع عند الآذان؟
فَإِنْ فُسِخَ فَعَلَى مَنْ يُفْسَخُ؟
وَهَلْ يَلْحَقُ سَائِرُ الْعُقُودِ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِالْبَيْعِ أَمْ لَا يَلْحَقُ؟
فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُفْسَخُ، وَقَدْ قِيلَ: لَا يُفْسَخُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ كَمَا قُلْنَا غَيْرَ مَا مَرَّةٍ هَلِ النَّهْيُ الْوَارِدُ لِسَبَبٍ مِنْ خَارِجٍ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ لَا يَقْتَضِيهِ؟
وَأَمَّا عَلَى مَنْ يُفْسَخُ؟
فَعِنْدَ مَالِكٍ عَلَى مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لَا عَلَى مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَتَقْتَضِي أُصُولُهُمْ أَنْ يُفْسَخَ عَلَى كُلِّ بَائِعٍ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْعُقُودِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَلْحَقَ بِالْبُيُوعِ، لِأَنَّ فِيهَا الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْبَيْعِ مِنَ الشُّغْلِ بِهِ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِهِ لِأَنَّهَا تَقَعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ نَادِرًا بِخِلَافِ الْبُيُوعِ.
وَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَلْحَقَ بِالْجُمُعَةِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ لِمُرْتَقِبِ الْوَقْتِ، فَإِذَا فَاتَ فَعَلَى جِهَةِ الْحَظْرِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فِي مَبْلَغٍ عِلْمِيٍّ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ تَارِكِي الْبُيُوعِ لِمَكَانِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}. وَإِذْ قَدْ أُثْبِتَتْ أَسْبَابُ الْفَسَادِ الْعَامَّةِ لِلْبُيُوعِ فَلْنَصِرْ إِلَى ذِكْرِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ الْمُصَحِّحَةِ لَهُ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ النَّظَرِ الْعَامِّ فِي الْبُيُوعِ.

.الْجُزْءُ الثَّالِثُ أَسْبَابُ الصِّحَّةِ فِي الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ:

الْقِسْمُ الثَّانِي: وَالْأَسْبَابُ وَالشُّرُوطُ الْمُصَحِّحَةُ لِلْبَيْعِ هِيَ بِالْجُمْلَةِ ضِدُّ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لَهُ، وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ:
النَّظَرُ الْأَوَّلُ: فِي الْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: فِي الْعَاقِدِينَ. فَفِي هَذَا الْقِسْمِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الْعَقْدِ:

وَالْعَقْدُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِأَلْفَاظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الَّتِي صِيغَتُهَا مَاضِيَةٌ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: قَدْ بِعْتُ مِنْكَ، وَيَقُولُ الْمُشْتَرِي: قَدِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ، وَإِذَا قَالَ لَهُ: بِعْنِي سِلْعَتَكَ بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: قَدْ بِعْتُهَا. فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَقَعَ وَقَدْ لَزِمَ الْمُسْتَفْهِمَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ فِي ذَلِكَ بِعُذْرٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ حَتَّى يَقُولَ الْمُشْتَرِي قَدِ اشْتَرَيْتُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: بِكَمْ تَبِيعُ سِلْعَتَكَ؟
فَيَقُولُ الْمُشْتَرِي بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: قَدِ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ. اخْتُلِفَ هَلْ يَلْزَمُ الْبَيْعُ أَمْ لَا حَتَّى يَقُولَ: قَدْ بِعْتُهَا مِنْكَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقَعُ الْبَيْعُ بِالْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ وَبِالْكِنَايَةِ، وَلَا أَذْكُرُ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلًا، وَلَا يَكْفِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُعَاطَاةُ انعقاد البيع بها دُونَ قَوْلٍ. وَلَا خِلَافَ فِيمَا أَحْسَبُ أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ الْمُؤَثِّرَيْنِ فِي اللُّزُومِ لَا يَتَرَاخَى أَحَدُهُمَا عَنِ الثَّانِي حَتَّى يَفْتَرِقَ الْمَجْلِسُ، (أَعْنِي: أَنَّهُ مَتَى قَالَ لِلْبَائِعِ: قَدْ بِعْتُ سِلْعَتِي بِكَذَا وَكَذَا فَسَكَتَ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَقْبَلِ الْبَيْعَ حَتَّى افْتَرَقَا، ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْبَائِعَ). وَاخْتَلَفُوا مَتَى يَكُونُ اللُّزُومُ؟
فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُمَا، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: إِنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ فِي الْمَجْلِسِ بِالْقَوْلِ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ عُمَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: الْبَيْعُ لَازِمٌ بِالِافْتِرَاقِ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَأَنَّهُمَا مَهْمَا لَمْ يَفْتَرِقَا، فَلَيْسَ يَلْزَمُ الْبَيْعُ وَلَا يَنْعَقِدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَسَوَّارٍ الْقَاضِي، وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَعُمْدَةُ الْمُشْتَرِطِينَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ حكمه فى البيع: حَدِيثُ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ»، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ: «إِلَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ»، وَهَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْ أَوْثَقِ الْأَسَانِيدِ، وَأَصَحِّهَا، حَتَّى لَقَدْ زَعَمَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِسْنَادِ يُوقِعُ الْعِلْمَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ.
وَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ فَقَدِ اضْطَرَبَ بِهِمْ وَجْهُ الدَّلِيلِ لِمَذْهَبِهِمْ فِي رَدِّ الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. فَالَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَدِّ الْعَمَلِ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يُلْفِ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ عَارَضَهُ عِنْدَهُ مَا رَوَاهُ مِنْ مُنْقَطِعِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا بَيِّعَيْنِ تَبَايَعَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ أَوْ يَتَرَادَّانِ»، فَكَأَنَّهُ حَمَلَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمَجْلِسِ، وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ، وَلَوْ كَانَ الْمَجْلِسُ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَبْيِينِ حُكْمِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدُ لَمْ يَنْعَقِدْ، وَلَا لَزِمَ بَلْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ، وَلَا يُعَارَضُ بِهِ الْأَوَّلُ، وَبِخَاصَّةٍ أَنَّهُ لَا يُعَارِضُهُ إِلَّا مَنْ تَوَهَّمَ الْعُمُومَ فِيهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَنْبَنِيَ هَذَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مُسْنَدًا فِيمَا أَحْسَبُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ فَاعْتَمَدُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ظَوَاهِرَ سَمْعِيَّةٍ، وَعَلَى الْقِيَاسِ، فَمِنْ أَظْهَرِ الظَّاهِرِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وَالْعَقْدُ هُوَ الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ يُوجِبُ تَرْكَ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّ لَهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ مَا أَنْعَمَ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِيهِ أَثَرٌ أَصْلُهُ سَائِرُ الْعُقُودِ، مِثْلُ النِّكَاحِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالْخُلْعِ، وَالرُّهُونِ، وَالصُّلْحِ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُمْ إِنَّ الظَّوَاهِرَ الَّتِي تَحْتَجُّونَ بِهَا يُخَصِّصُهَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ فِي مُقَابَلَةِ الْحَدِيثِ إِلَّا الْقِيَاسُ، فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونُوا مِمَّنْ يَرَى تَغْلِيبَ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَثَرِ، وَذَلِكَ مَذْهَبٌ مَهْجُورٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ تَغْلِيبُ الْقِيَاسِ عَلَى السَّمَاعِ، مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ رَدِّ الْحَدِيثِ بِالْقِيَاسِ، وَلَا تَغْلِيبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَأْوِيلِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ. قَالُوا: وَتَأْوِيلُ الظَّاهِرِ بِالْقِيَاسِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ. قَالُوا:
وَلَنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ هُمَا الْمُتَسَاوِمَانِ اللَّذَانِ لَمْ يَنْفَذْ بَيْنَهُمَا الْبَيْعُ، فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّهُ يَكُونُ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ إِذْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ بِالْقَوْلِ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْآخَرُ، فَقَالُوا: إِنَّ التَّفَرُّقَ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الِافْتِرَاقِ بِالْقَوْلِ لَا التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}، وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ هِيَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ أَنْ يُقَاسَ بَيْنَ ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَالْقِيَاسِ فَيُغَلَّبُ الْأَقْوَى، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ هِيَ لِمَوْضِعِ النَّدَمِ، فَهَذِهِ هِيَ أُصُولُ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الْعَقْدُ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ:

وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ سَلَامَتُهُ مِنَ الْغَرَرِ وَالرِّبَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمُخْتَلَفُ فِي هَذِهِ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَأَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، فَلَا مَعْنَى لِتَكْرَارِهِ. وَالْغَرَرُ يَنْتَفِي عَنِ الشَّيْءِ بِأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْوُجُودِ، مَعْلُومَ الصِّفَةِ شروط المعقود عليه في البيع، مَعْلُومَ الْقَدْرِ شروط المعقود عليه في البيع، مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ شروط المعقود عليه في البيع، وَذَلِكَ فِي الطَّرَفَيْنِ الثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ، مَعْلُومَ الْأَجَلِ أَيْضًا إِنْ كَانَ بَيْعًا مُؤَجَّلًا شروط المعقود عليه في البيع.

.الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْعَاقِدَيْنِ:

وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ وَهُمَا الْعَاقِدَانِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَا مَالِكَيْنِ تَامَّيِ الْمِلْكِ العاقدين في البيع، أَوْ وَكِيلَيْنِ تَامَّيِ الْوَكَالَةِ بَالْغَبْنِ، وَأَنْ يَكُونَا مَعَ هَذَا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِمَا العاقدين في البيع، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا، إِمَّا لِحَقِّ أَنْفُسِهِمَا كَالسَّفِيهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى التَّحْجِيرَ عَلَيْهِ، أَوْ لِحَقِّ الْغَيْرِ كَالْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ، هَلْ يَنْعَقِدُ أَمْ لَا؟
وَصُورَتُهُ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ مَالَ غَيْرِهِ بِشَرْطِ إِنْ رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْمَالِ أُمْضِيَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فُسِخَ، وَكَذَلِكَ فِي شِرَاءِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي صَحَّ الشِّرَاءُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَقَالَ: يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الشِّرَاءِ. وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ: مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ إِلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ دِينَارًا، وَقَالَ: اشْتَرِ لَنَا مِنْ هَذَا الْجَلَبِ شَاةً، قَالَ: فَاشْتَرَيْتُ شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ، وَبِعْتُ إِحْدَى الشَّاتَيْنِ بِدِينَارٍ، وَجِئْتُ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ شَاتُكُمْ، وَدِينَارُكُمْ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ»، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهُ فِي الشَّاةِ الثَّانِيَةِ لَا بِالشِّرَاءِ وَلَا بِالْبَيْعِ، فَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي صِحَّةِ الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ، وَعَلَى الشَّافِعِيِّ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: النَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ بَيْعِ الرَّجُلِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَالْمَالِكِيَّةُ تَحْمِلُهُ عَلَى بَيْعِهِ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَقَضِيَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ لِنَفْسِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ الْمَسْأَلَةُ المَشْهُورَةُ، هَلْ إِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَلَى سَبَبٍ حُمِلَ عَلَى سَبَبِهِ أَوْ يَعُمُّ؟
فَهَذِهِ هِيَ أُصُولُ هَذَا الْقِسْمِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ هُوَ مُنْطَوٍ بِالْقُوَّةِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّ النَّظَرَ الصِّنَاعِيَّ الْفِقْهِيَّ يَقْتَضِي أَنْ يُفْرَدَ بِالتَّكَلُّمِ فِيهِ. وَإِذْ قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذَا الْجُزْءِ بِحَسَبِ غَرَضِنَا فَلْنَصِرْ إِلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الْقَوْلُ فِي الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ لِلْبُيُوعِ الصَّحِيحَةِ.

.الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ لِلْبُيُوعِ الصَّحِيحَةِ:

وَهَذَا الْقِسْمُ تَنْحَصِرُ أُصُولُهُ الَّتِي لَهَا تَعَلُّقٌ قَرِيبٌ بِالْمَسْمُوعِ فِي أَرْبَعِ جُمَلٍ:
الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِي أَحْكَامِ وُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعَاتِ.
وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الضَّمَانِ فِي الْمَبِيعَاتِ مَتَى يَنْتَقِلُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي.
وَالثَّالِثَةُ: فِي مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتْبَعُ الْمَبِيعَ مِمَّا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ فِي حِينِ الْبَيْعِ مِنَ الَّتِي لَا تَتْبَعُهُ.
وَالرَّابِعَةُ: فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْأَلْيَقُ بِهِ كِتَابَ الْأَقْضِيَةِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ أَبْوَابِ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ الِاسْتِحْقَاقُ، وَكَذَلِكَ الشُّفْعَةُ هِيَ أَيْضًا مِنَ الْأَحْكَامِ الطَّارِئَةِ عَلَيْهِ، لَكِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يُفْرَدَ لَهَا كِتَابٌ.

.الْجُمْلَةُ الْأُولَى: فِي أَحْكَامِ وُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعَاتِ:

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِيهَا بَابَانِ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَحْكَامِ وُجُودِ الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ.
وَالْبَابُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِهِمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي أَحْكَامِ الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ:

وَالْأَصْلُ فِي وُجُودِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ الْمَشْهُورُ. وَلَمَّا كَانَ الْقَائِمُ بِالْعَيْبِ لَا يَخْلُو أَنْ يَقُومَ فِي عَقْدٍ يُوجِبُ الرَّدَّ، أَوْ يَقُومَ فِي عَقْدٍ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا قَامَ فِي عَقْدٍ يُوجِبُ الرَّدَّ، فَلَا يَخْلُو أَيْضًا مِنْ أَنْ يَقُومَ بِعَيْبٍ يُوجِبُ حُكْمًا، أَوْ لَا يُوجِبُهُ، ثُمَّ إِنْ قَامَ بِعَيْبٍ يُوجِبُ حُكْمًا فَلَا يَخْلُو الْمَبِيعُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ فِيهِ تَغَيُّرٌ بَعْدَ الْبَيْعِ، أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَحْدُثْ فَمَا حُكْمُهُ؟
وَإِنْ كَانَ حَدَثَ فِيهِ فَكَمْ أَصْنَافُ التَّغْيِيرَاتِ وَمَا حُكْمُهَا؟
كَانَتِ الْفُصُولُ الْمُحِيطَةُ بِأُصُولِ هَذَا الْبَابِ خَمْسَةٌ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الْعُقُودِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا بِوُجُودِ الْعَيْبِ حُكْمٌ، مِنَ الَّتِي لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِيهَا.
الثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ، وَمَا شَرْطُهَا الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ فِيهَا؟
الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْعَيْبِ الْمُوجِبِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
الرَّابِعُ: فِي مَعْرِفَةِ أَصْنَافِ التَّغَيُّرَاتِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَحُكْمِهَا.
الْخَامِسُ: فِي الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَلْيَقَ بِكِتَابِ الْأَقْضِيَةِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الْعُقُودِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا بِوُجُودِ الْعَيْبِ حُكْمٌ مِنَ الَّتِي لَا يَجِبُ فِيهَا:

أَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا بِوُجُودِ الْعَيْبِ حُكْمٌ بِلَا خِلَافٍ، فَهِيَ الْعُقُودُ الَّتِي الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمُعَاوَضَةُ، كَمَا أَنَّ الْعُقُودَ الَّتِي لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمُعَاوَضَةَ لَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْعَيْبِ فِيهَا، كَالْهِبَاتِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ، وَالصَّدَقَةِ، وَأَمَّا مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْعُقُودِ، (أَعْنِي: مَا جَمَعَ قَصْدَ الْمُكَارَمَةِ، وَالْمُعَاوَضَةِ، مِثْلُ هِبَةِ الثَّوَابِ)، فَالْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ فِيهَا بِوُجُودِ الْعَيْبِ، وَقَدْ قِيلَ: يُحْكَمُ بِهِ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ مُفْسِدًا.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ وَمَا شَرْطُهَا الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ فِيهَا:

وَفِي هَذَا الْفَصْلِ نَظَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْعُيُوبِ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ. وَالنَّظَرُ الثَّانِي: فِي الشَّرْطِ الْمُوجِبِ لَهُ.

.النَّظَرُ الْأَوَّلُ فِي الْعُيُوبِ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ:

فَأَمَّا الْعُيُوبُ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ بفسخ البيع: فَمِنْهَا عُيُوبٌ فِي النَّفْسِ، وَمِنْهَا عُيُوبٌ فِي الْبَدَنِ، وَهَذِهِ مِنْهَا مَا هِيَ عُيُوبٌ بِأَنْ تَشْتَرِطَ أَضْدَادَهَا فِي الْمَبِيعِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى عُيُوبًا مِنْ قِبَلِ الشَّرْطِ، وَمِنْهَا مَا هِيَ عُيُوبٌ تُوجِبُ الْحُكْمَ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ وُجُودُ أَضْدَادِهَا فِي الْمَبِيعِ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي فَقْدُهَا نَقْصٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَأَمَّا الْعُيُوبُ الْأُخَرُ فَهِيَ الَّتِي أَضْدَادُهَا كِمَالَاتٌ، وَلَيْسَ فَقْدُهَا نَقْصًا مِثْلُ الصَّنَائِعِ، وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ هَذَا الصِّنْفُ فِي أَحْوَالِ النَّفْسِ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي أَحْوَالِ الْجِسْمِ. وَالْعُيُوبُ الْجُسْمَانِيَّةُ: مِنْهَا مَا هِيَ فِي أَجْسَامِ ذَوَاتِ الْأَنْفُسِ، وَمِنْهَا مَا هِيَ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَنْفُسِ. وَالْعُيُوبُ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْعَقْدِ هِيَ عِنْدَ الْجَمِيعِ مَا نَقَصَ عَنِ الْخِلْقَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، أَوْ عَنِ الْخُلُقِ الشَّرْعِيِّ نُقْصَانًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، وَالْعَوَائِدِ، وَالْأَشْخَاصِ، فَرُبَّمَا كَانَ النَّقْصُ فِي الْخِلْقَةِ فَضِيلَةً فِي الشَّرْعِ، كَالْخِفَاضِ فِي الْإِمَاءِ، وَالْخِتَانِ فِي الْعَبِيدِ. وَلِتَقَارُبِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهِ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا اشْتَهَرَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِيَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْفَقِيهِ يَعُودُ كَالْقَانُونِ وَالدُّسْتُورِ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ، أَوْ فِيمَا لَمْ يَقِفْ عَلَى نَصٍّ فِيهِ لِغَيْرِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ وُجُودُ الزِّنَا فِي الْعَبِيدِ هل هى عيب فى البيع. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ عَيْبٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَهُوَ نَقْصٌ فِي الْخُلُقِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ الْعِفَّةُ.
وَالزَّوَاجُ عِنْدَ مَالِكٍ عَيْبٌ، وَهُوَ مِنَ الْعُيُوبِ الْعَائِقَةِ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَكَذَلِكَ الدِّينُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَيْبَ بِالْجُمْلَةِ هُوَ مَا عَاقَ فِعْلَ النَّفْسِ، أَوْ فِعْلَ الْجِسْمِ، وَهَذَا الْعَائِقُ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّيْءِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ خَارِجٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ الدِّينُ وَلَا الزَّوَاجُ بِعَيْبٍ فِيمَا أَحْسَبُ. وَالْحَمْلُ فِي الرَّائِعَةِ عَيْبٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا فِي الْوَخْشِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَالتَّصْرِيَةُ هل هى عيب فى البيع عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَيْبٌ، وَهُوَ حَقْنُ اللَّبَنِ فِي الثَّدْيِ أَيَّامًا حَتَّى يُوهِمَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَيَوَانَ ذُو لَبَنٍ غَزِيرٍ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ»، قَالُوا: فَأَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ بِالرَّدِّ مَعَ التَّصْرِيَةِ، وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى كَوْنِهِ عَيْبًا مُؤَثِّرًا. قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُدَلِّسٌ، فَأَشْبَهَ التَّدْلِيسَ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَيْسَتِ التَّصْرِيَةُ عَيْبًا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَرَى شَاةً فَخَرَجَ لَبَنُهَا قَلِيلًا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَيْبٍ. قَالُوا: وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ يَجِبُ أَنْ لَا يُوجِبَ عَمَلًا لِمُفَارَقَتِهِ الْأُصُولَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلْأُصُولِ مِنْ وُجُوهٍ: فَمِنْهَا: أَنَّهُ مَعَارِضٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ فِيهِ مُعَارَضَةَ مَنْعِ بَيْعِ طَعَامٍ بِطَعَامٍ نَسِيئَةً، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُتْلَفَاتِ إِمَّا الْقِيَمُ وَإِمَّا الْمِثْلُ، وَإِعْطَاءُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فِي لَبَنٍ لَيْسَ قِيمَةً وَلَا مِثْلًا.
وَمِنْهَا: بَيْعُ الطَّعَامِ الْمَجْهُولِ (أَيْ: الْجُزَافُ) بِالْمَكِيلِ الْمَعْلُومِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي دَلَّسَ بِهِ الْبَائِعُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْقَدْرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، وَالْعِوَضُ هَاهُنَا مَحْدُودٌ. وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُسْتَثْنَى هَذَا مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ كُلِّهَا لِمَوْضِعِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ خَاصٌّ. وَلَكِنِ اطَّرَدَ إِلَيْهِ الْقَوْلُ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى حَيْثُ كُنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي الْعَوَرِ، وَالْعَمَى هل هما عيب فى البيع، وَقَطْعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ هل هما عيب فى البيع أَنَّهَا عُيُوبٌ مُؤَثِّرَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ فِي أَيِّ عُضْوٍ من عيوب البيع كَانَ، أَوْ كَانَ فِي جُمْلَةِ الْبَدَنِ، وَالشَّيْبُ فِي الْمَذْهَبِ عَيْبٌ فِي الرَّائِعَةِ، وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الِاسْتِحَاضَةُ من عيوب البيع عَيْبٌ فِي الرَّقِيقِ وَالْوَخْشُ، وَكَذَلِكَ ارْتِفَاعُ الْحَيْضِ من عيوب البيع عَيْبٌ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالزَّعَرُ من عيوب البيع عَيْبٌ، وَأَمْرَاضُ الْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ من عيوب البيع كُلُّهَا عَيْبٌ بِاتِّفَاقٍ. وَبِالْجُمْلَةِ فَأَصْلُ الْمَذْهَبِ أَنَّ كُلَّ مَا أَثَّرَ فِي الْقِيمَةِ (أَعْنِي: نَقَصَ مِنْهَا) فَهُوَ عَيْبٌ، وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ من عيوب البيع عَيْبٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُرَدُّ الْجَارِيَةُ بِهِ، وَلَا يُرَدُّ الْعَبْدُ بِهِ، وَالتَّأْنِيثُ فِي الذَّكَرِ وَالتَّذْكِيرُ فِي الْأُنْثَى عَيْبٌ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا فِيهِ الِاخْتِلَافَ.